معضلة الأدب والمؤلِّف

معضلة الأدب والمؤلِّف

مخطئ من قال بأن الكلمات لا تتجاوز الصفحات وأن أثرها لا يتجاوز الهمسات النابعة من قراءتها، ما تحدثه الكلمات بداخل القرّاء والعامة ومن كتبها يمتد لسنواتٍ وسنوات! وكأنها تشهد على انتصارات من كتبها وعلى انهزاماته، على اعترافٍ أسدى به الكاتب متألمًا ومعترفًا بآلامه وتضحياته وعثرات كانت مترامية الأطراف تزيّن طريق مسيره، وكيف لكلمات أن تشرح لنا عن مؤلف شارك أفكاره بكل جرأة وشجاعة! وكأنه ناضل في سبيل نشر رأيه وما يراه صحيحًا، والتحدث عما يدور داخل جمجمته التي تبلغ من الحجم(57.2 سنتيمترًا) تلك الكتابات التي قد تكون خلّدت وجد ولوعة الشعور لمن كتبها أو حتى وثقت وفاء أصحابها ووقوفهم شامخين خلف كلماتهم ومشاعرهم.

وما هو أشد ألمًا من هذا وذاك! أن يأتي سارقٌ للكلمات ويقوم بنشر ما كتب، ينشر دقائق شهدت ألم كاتبها ومشاعر سُطِرّت برقي لما تمكن من عقل الكاتب من معجزة أحدثت في حياة الكاتب قنبلة من التغيير والتأثير. وعلى أثر هذا التغيير كُتِب ما كُتب، والسؤال  ‏هنا هل يحق أن تباع المشاعر بثمنٍ بخس! هل يحق أن تنشر بعض الكتابات من رسائل واعترافات بعد استشهاد غسان كنفاني؟ هل يستحق هذا الكاتب بتاريخه العريق أن تباع كلماته وكأنها مجرد أداة لجلب المال؟! أوليست هي ما تحكي عن عظمة الوفاء والتعلق؟ فكيف يُجازى الحب بالإساءة ونشر آلامه؟ أم أن مشاعرنا أصبحت تُباع وتُشترى؟ قد تتساءل عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة هل الحُب يُخلف الألم؟ إن كان كمحبة وصبابة غسان فنعم يُخلف ألمًا يطول أمر شِفائه فما هو أكثرُ ألمًا من أن تكتب عما بداخلك وتُقابل كلماتك بالرفض والتشكيك؟ ثم فيما بعد تكونُ وسيلة لدرّ المال!.

من يتحمل هذا الجُرم؟ ومن هو المسؤول عن بيع مشاعر الكُتَّاب بعد رحيلهم؟ أتساءل عن حال أصحاب تلك الكتابات لو علموا ما سوف تؤول إليه الأمور وأن الكلمات التي قد قاموا بكتابتها وهم سعداء وفي نشوة مشاعرهم ستُباع ويقبض الآخرون ثمن مشاعرهم، وأن الكتابات التي قاموا بكتابتها وهم في أشد لحظاتهم حُزنًا ستُنشر ويشهد العامة على حزنهم بعدما كانت الأوراق خير حافظٍ للآلامِ والسر!.

مُجدَّدًا يتكرر ذات الحدث، وذات السؤال الدائم، فالحدث ليس إلاّ جُرأة البعض على نشر مخطوطات رسائل وكُتب لمؤلفين بعد وفاتهم، والسؤال هل نملك الحق بأن ننشر رسائل واعترافات لم ينشرها صاحبها وهو على قيد الحياة؟

وهل جمع الرسائل وتنظيمها ونشرها في كتاب بعد وفاة كاتبها خيانة؟

إنها خيانة للأدبِ بذاته وكل من تسول له نفسه قراءة تِلك الكتابات تحت غطاء أنها من كاتبه المُفضل فهو مُخطئ وهو يقوم بأذية مُباشرة لكاتبه! ليس من العدل التلصص والقراءة حتى وإن قام الكاتب بالكتابة وإرسال الرسائل فمُراده كان واضحًا! وليس مراده أبدًا أن تُقرأ مشاعره على مرأى أعين من الناس، وعند حديثنا عن ناشرينها ومن تجرؤوا على فعل ذلك فالأدبُ منهم بريء.

وقد تكرر الجدل بين أوساط المثقفين، خلال تعاقب السنوات الماضية انتشر كتاب تحت عنوان "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان" وأسفل الغلاف بخطٍ أصغر كُتِب " قدمت لها: غادة السمان!" أي أن غسان كنفاني بذاته لم ينشرها بل أرسل الرسائل بكامل محبته إلى غادة التي قامت بنشرها فيما بعد وتحديدًا بعد وفاته.

وتتبادر بعض الأسئلة لذهني..

ماذا لو استمر هذا الوضع، ما هو حال الأدب؟ هل ستمتلئ الساحة الثقافية بلصوص الكلمات؟وتفوق منشوراتهم عدد منشورات المؤلفين الأصليين؟ أرى بأن حال الأدب يتحول من ملحمة ثقافية تحفظ تُراث وأثر وتاريخ حفرهُ الأدباء والمؤلفون بأقلامهم إلى فُقاعة مُهتزة! تفقد بريق كلماتها وشعور صاحبها، فحِينما يقوم الكاتب بنشر كلماته للعامة، مشاعره لا تكون ذاتها عندما ينشرها لشخصٍ بعينه، آمل حقيقة أن لا تنتشر ثقافة الاستيلاء والنشر دون إذنٍ من الكاتب؛ حِفاظًا على الساحة الثقافية والذائقة الأدبية وأيضًا حتى لا تفوق هذه المنشورات غير المشروعة عدد منشورات المؤلفين الأصليين الذين كتبوا مخطوطاتهم بكامل محبتهم ومشاعرهم.

بالتفكير خلف الأسباب التي دعت البعض لارتكاب مثل هذه الأفعال تختلف الآراء فهُناك قولٌ بأن هذا الفعل نتج عن صدمة لرحيل الكاتب وتظهر هذه الصدمة على هيئة نشر للكتابات وعدم التخطي لهذه المرحلة من الزمن وبعض التصرفات التي قد لا تكون منطقية، وتحليلٍ آخر للسبب وراء هذا الفعل ينِم أنه للفت الانتباه؛ لمعرفتهم السابقة بأن القُرّاء والمهتمين بالثقافة يبحثون عن حصريات وأواخر أعمال الكاتب بعد وفاته بهدف قراءتها واقتنائها وأنهم ممن ظّفر بأفكارٍ كانت النجوى لصاحبها أو صاحبتها حتى!.

مؤلم أن يكون بيننا من يتاجر بالكلمات ومؤلمٌ أن تبقى بعض الكلمات دون معرفة روعتها ولكنه لديّ أفضل بكثير من تخطي الحدود ونشرها وكأن ليس لصاحبها حقٌ بها، وقد يتبادر لذهنك حين القراءة سؤال:

"الكتابات في الحقيقة هي حقٌ لِمن؟ هل للقارئ حقٌ بها أم هي من حق من سهر الليالي يكتبها وينظم أحرفها؟"

لابد أنك لم تسأل نفسك هذا السؤال من قبل، أو حتى أنك قمت بذلك ولكنك بشكلٍ أو بآخر تقول إنها من حق صاحبها، ولكن البعض يرى بأن ما حُرِر من الكتابات وتم نشره بأي وسيلةٍ كانت خرج من الحق الخاص "خاص بالكاتب" إلى الحق العام والمشروع، وحينئذ أصبح الكاتب فاقد المُلكية لكتاباته! وهذا ما يُنافيه العقل وحقوق الملكية.

وذات الحال بين جمهور الفلسفة؛ ما الدَّاعي إلى نشر كتابٍ لم يُتح للمؤلف أن ينشره في حياته؟ ككِتاب "إرادة القوة" للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الذي عرض فيه معظم آرائه حول ميادين الفكر، فسار نحو التاريخ والفلسفة ونظرته المختلفة التي أحدث فيها انقلابًا في القيم فاستبدل قواعد الأخلاق التقليدية إلى أخلاق تقليدية تدافع عن حقوق الأقوياء بوجه جمهور العبيد وهزيلي البنية والضعفاء، ومنها بقية أطروحاته التي قد جاءت غريبة المنطق وعنيفة! فضلًا عن التشويه الذي أحدثته شقيقته إليزابيث التي نشرت هذا المؤلف بعد وفاته.

وليس هذا فحسب، فقد جُمعت كتاباته على غير الترتيب الذي قرره الفيلسوف نيتشه مما تسبب في تحريف معانيها؛ الأمر الذي عرّض تلك الأطروحة لتأويلات عديدة تدل على إرادة القوة على شهوة السلطة والحكم وعلى حاجة الإنسان المُفرطة لتأكيد ذاته كونه يعتقد أن النجاح مُرتبط بالسُلطة فقط! 

ولكن الحقيقة الكاملة أن «السُلطة المُطلقة تُخرج أسوأ ما في النفس البشرية».

 

والأمر ليس ببعيدٍ عن "رسائل إلى ميلينا" المؤلَّف الذي جُمِعت فيه بعض رسائل فرانس كافكا للصحفية التشيكية ميلينا وقام بتحرير الرسائل ونشرها باللغة الألمانية المُحرر ويلي هاس والذي بدوره حذف بعض الفقرات التي وجدها غير مُناسبة لمن كانوا أحياءً في ذلك الوقت!، قد تكون شاعرية كافكا ورسائله هي السبب وراء النشر ولكن هذا  لا يُعطي الحق أبدًا للتعدي ونشر مؤلَّفٍ لا قرار لمؤلفه بنشره. وقد تكون هذه المِعضلة مُستمرة ولن تنتهي ولكن ليس هذا الجانب هو الوحيد المؤلم في القِصة فالمؤلم حقًا أن تلك المنشورات جميعها لم تُطابق ما خلَّفه المؤلِّف وتعرضت لتغيرات وعُبِث بها من قِبل الدَّار والمُحرِر أو المُشرف على النَّشر.

«إن إمكانية كتابة رسائل بسهولة لا بد من أن تكون قد جلبت الخراب والدمار للنفوس في هذا العالم، كتابة الرسائل في الواقع هي بمثابة اجتماع مع الأرواح، وهذا لا يعني روح المرسل إليه فحسب، بل الأشخاص الذين يملكون روحًا أيضًا وهذا يتطور سرًا في الرسالة التي يكتبها المرء».

-رسائل إلى ميلينا، فرانس كافكا.

تتزاحم الأمثلة فِي ذِكر المؤلفات التي نُشرت بعدما فارق كاتبها أو كاتبتُها الحياة مثل: (السيرة الذاتية لأجاثا كريستي، الأمير لنيكولو ميكافيلي، السيد هارلي كوين وطقم الشاي لأجاثا كريستي، حطم الفجر لإرنست همينغواي..)

 

إن أي عملٍ لم ينشره مؤلفٌ وهو على قيد الحياةِ وحُبِّها لا بُد أن يُعطي امتزاجًا غير محبوبٍ بين بقية أعماله، مُقارنةً بالأعمال التي نشرها في حياته، خاصةً وإن كانت الأعمال تحمِلُ آراءً له قد تكون تغيّرت وجهةُ نظره حِيالها.