الحب في زمن الكوليرا

هل هو جنون أم شعور أبدي؟


بقلم/ ماريا محمد

يكاد يكون الحب هو الشيء الوحيد الذي اتفقت عليه البشرية على مر العصور، ولكن يظل هناك خلاف حتى في هذه النقطة، لقد كتب الشعراء والأدباء عنه، وتناولته الحكايات الشعبية والقصص المتداولة، وظهر في اللوحات والأغاني وفي كل مكان حولنا.

 ومن الصعب تحديد مكان خاص لنبدأ منه الحديث عن هذا الموضوع المتفرع ولكننا لن نذهب الى أي مكان إذا لم نجد نقطة بداية، من اين سنبدأ يا ترى؟

هل سمعتم من قبل عن شخص يدعى فلورنتينو  أرّيثا، ربما تكونون قد سمعتم عنه وربما لا، حسنا استمروا في قراءة هذا المقال لتعرفوا ما فعل الحب  به، أو ربما نستطيع القول ما فعله هو بالحب!

كان فلورنتينو "مقتنعا في عزلة روحه أنه قد أحب بصمت أثر بكثير من أي كان في هذا العالم " هذا بالضبط  ما قاله ماركيز في روايته الحب في زمن الكوليرا عند بداية تقديمه لشخصية فلورنتينو، فمن هو فلورنتينو وكيف حاله مع الحب؟

لقد كان فلورنتينو عاشقا يائسا، فقد حبيبته بسبب فقره، وقد أقسم أن يستعيدها ولو كان ذلك آخر عمل يقوم به في حياته، وانتظر خمسين عاما ليحصل على تلك اللحظة، وعندما أتت لم ينتظر دقيقة واحدة ليعلن وفاءه للمرأة التي أحبها، في اليوم الذي دفنت فيه زوجها المحبوب.

 كان تصرف فلورنتينو من أكثر التصرفات فظاظة وغرابة، ولكن من نحن لنحكم عليه، ألسنا في النهاية نحب الحب، ونصفق لانتصار قصصه خاصة الغريبة منها.

لكن حبيبة فلورنتينو السيدة فيرمينيا كان لها رأي آخر، رأي واقعي وطبيعي، فقد تحكمت بأعصابها وقالت" انصرف، ولا تدعني أراك ثانية في السنوات المتبقية لك في الحياة " إنه موقف مضحك  ومحزن جدا كان الرجل عجوزا في السادسة والسبعين بينما كانت هي تبلغ من العمر واحدا وسبعين عاما، لذلك فقد أضافت بسخرية" وأرجو أن تكون سنوات قليلة"

 لكن قبل خمسين عاما لم يكن هذا هو رأيها فقد كانت بالفعل متيمة به،كانت في السادسة عشر من العمر عندما تعرفت عليه، وفرض نفسه عليها برسائله الغرامية الجميلة، واصراره غير المعهود ووفائه المطلق لها، وعندما اكتشف والدها سرهما حاول إبعاده عنها لكنه رفض، فأخذها في رحلة بعيدة إلى بيت جدها، استمرت الرحلة لمدة سنة تقريبا، ولم تنقطع فيها رسائل فلورنتينو إلى فيرمينيا واستمرت علاقتهما دون أن يعلم والدها شيئا، لقد كان الحب أقوى من تهزمه رحلة صغيرة.

 لكن المفاجأة أنه بعد عودة فيرمينيا إلى بلدتها، لم تبحث أبدا عن فلورنتينو، وعندما علم بعودتها قابلها فأعلنت قائلة" أرجوك… انسَ كل شيء"

 نقف هنا لنتامل قليلا في واقع الحب، عندما نكون صغارا فإننا نظن أننا نحب من أعماق قلوبنا، وأننا لا يمكن أن ننسى من أحببناه، وقد يكون هذا صحيحا، ولكن في الناحية الأخرى هناك أشخاص يكون الحب مجرد محطة، أوقفهم بها  الفضول فقاموا بجولة فيها وعندما حان وقت الرحيل مضوا دون ندم.

ينتمي فلورنتينو إلى طينة العشاق المجانين، فهو يكاد يكون قيسًا آخر في زمن آخر وفي ثقافة أخرى، فهو عندما اختار فيرمينيا كان قد حكم على نفسه بألا يحب غيرها، ولكن هل تعتبر فيرمينيا خائنة يا ترى؟  فقد تزوجت من طبيب مرموق وعاشت معه خمسين عاما أو أكثر في سعادة، بينما بقي فلورنتينو يراقب وينتظر طوال تلك الفترة، فهل يعتبر شخصا عاقلا؟ هل يصمد الحب كل هذه الفترة؟ والسؤال الأهم لماذا؟

غالبا ما يقال أن الممنوع مرغوب ويبدو أن هذا هو ما حدث مع صديقنا فلورنتينو فامتناع فيرمينيا سبب له رغبة جامحة في كسب قلبها، وعاهد نفسه على هذا، بينما كان هو بالنسبة لها مجرد نزوة مراهقة انطفأت فجأة كما تخمد الشمعة عندما ينتهي خيطها.

إن الحياة كلها وجهة نظر، وهي أيضا متعددة الزوايا، فما تراه أنت عزيزي القارئ بشكل، سيراه غيرك بشكل مختلف عنك، الأمور كلها مرهونة بما تؤمن به والظروف التي تضعك في أي وضع، والحب هو أحد الأوضاع المتكررة في الحياة، ولكنها أبدا لا تتشابه، فلكل قصة بدايتها، وأسبابها، وبعضها ينتهي، والبعض الآخر لا ينتهي أبدا.

 عندما وصل  خبر زواج فيرمينيا إلى فلورنتينو قرر الابتعاد، وهذا هو ما سيقوم به أي عاشق طبيعي، لكن فلورنتينو لم يكن عاشقا طبيعيا، فسرعان ما عاد إلى المدينة، وقد تغير تماما، كان ما زال على وفائه وحبه، لكنه أيضا قرر ألا يدفن نفسه من أجل حبيبته، فعاش حياته كعاشق متحرر يتنقل من زهرة الى أخرى، وعلى فكرة لم يكن فلورنتينو وسيما أبدا، لكنه كان طيبا حساسا، ومتعاونا جدا، عندما رأته قريبة فيرمينيا للمرة الأولى صدمت فقد كانت تتخيله ملك جمال وكان تعليقها" إنه قبيح وكئيب، لكنه ينضح حبا" وكان هذا ربما هو ما جذب النساء إليه، ولكننا جميعنا نعرف أن طبيعتنا كبشر تجعلنا لا نرضى إلا بما نريد كما نريد. وهذا ما جعل فلورنتينو يقضي عمره عازبا لعوبا، وهذا ما جعله أيضا بوقاحة يعرض حبه مجددا في الليلة التي دفنت فيها فيرمينيا زوجها.

 إلى أين يمكن أن يأخذك الحب، والى أي مدى يمكن أن تتبعه، هل الحب كائن عقلاني، أم أنه لمسة جنون تلغي العقل نهائيا؟

 قد لا يكون هناك جواب واحد منطقي لأي من هذه الاسئلة، ولكن الكتب والأعمال الفنية بشكل عام مليئة بقصص تعطينا في كل مرة جوابا يلائم حالة من حالاتنا.

وبلحظة تأمل في القصص التي نعيشها أو التي نرى غيرنا يعيشها ندرك أن الحب أكبر من شعلة العواطف التي تتقد في البدايات، لأن ذلك ليس سوى عنوان فرعي، أما القصة الكاملة فهي في الحياة التي تأتي لاحقا.

 قصة  فلورنتينو وشغفه المجنون الذي خلده جابرييل جارسيا ماركيز في روايته الخالدة الحب في زمن الكوليرا، ما هو إلا وجه من أوجه الحب، وهو وجه عميق جدا، حيث تبدو الحياة فيه غير متوازنة وكل كفة تميل لصالحها بشكل لا يمكن أن يعقل إلا في الحب، فكفة فلورنتينو تخبرنا عن متناقضات الحب وكيف يمكن أن يكون جنونا، وكيف يمكن أن يقود صاحبه لأكثر الأفعال غرابة، وكيف يمكن أن يعيش إلى الأبد، وهذه الكفة تميل دائما فتنجح  في استمالتنا.

 أما الكفة الأخرى فهي كفة فيرمينيا، وهي التي تصور لنا الحب العائلي، المطمئن الطبيعي الذي ولد بطريقه يخشاها أغلبنا، وهي التي تفرض فرضا علينا، لكنه في النهاية تحول إلى حب جميل وهادئ ومتزن، أنشأ عائلة، وأسعد أشخاصا كثيرين، وهذه كفة أخرى تميل كثيرا ونجد أنفسنا متعاطفين معها دائما.

 وفي النهاية الكبرى هذه القصة ليست سوى وجهة نظر، قد تتفقون معها وقد تختلفون، لكن لا تتسرعوا في الحكم فربما تريدون إكمال الرواية لتضعوا نقطة على حروف الغموض التي تنتابكم الآن.

 أما عن الحب فلا أحد سيفهمه يوماً. 


ماريا محمد
محررة / كاتبة محتوى
ماريا محمد
رئيس التخطيط والتطوير
خلود خالد البناء
منتجة وسائط متعددة
خلود خالد البناء
رئيسة قسم التصميم الإبداعي